الهجوم الدبلوماسي الأميركي- كمين للفلسطينيين وتوريط للدول العربية؟

المؤلف: فهمي هويدي10.23.2025
الهجوم الدبلوماسي الأميركي- كمين للفلسطينيين وتوريط للدول العربية؟

عقب الإخفاق الذي منيت به الحرب الإسرائيلية على غزة، نشهد الآن تحولًا جليًا نحو تصعيد للهجوم الدبلوماسي والسياسي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، بوصفها الحليف المحوري لإسرائيل في هذه الحرب الدائرة.

(1)

لا شك أن لهذا الهجوم الدبلوماسي والسياسي دورًا مؤثرًا منذ بداية عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول المنصرم، غير أنه اتسم حينها بثلاث سمات مميزة. أولًا، لم يكن معلنًا على الملأ، بل كان يمارس في الخفاء ووراء الكواليس. وثانيًا، ظل هذا الهجوم مساندًا للجيش الإسرائيلي في حملته العسكرية العدوانية، مهمته محصورة في تشويه صورة الفلسطينيين وترويج الأكذوبة الرائجة عن «الدفاع عن النفس».

أما السمة الثالثة، فهي أن الدور العربي كان ثانويًا وهامشيًا في تلك الفترة، وكان مقصودًا له أن يظل حبيسًا لدعوات ضبط النفس والحياد الإيجابي، مع المطالبة بوقف «التصعيد». لكن هذا الوضع تبدل وتغير جذريًا حينما بدأت تلوح في الأفق نذر الفشل العسكري الإسرائيلي، وتتابعت أزماته القانونية والأخلاقية والسياسية. عندها، تجلى الدور الأمريكي بشكل أكثر وضوحًا وجلاءً على مسرح الأحداث.

إذ جرى الإعلان عن خطة بايدن لوقف القتال وإنقاذ إسرائيل من مأزقها المتفاقم. وقدّمت تلك الخطة إلى مجلس الأمن، حيث اضطلعت واشنطن بمهمة الترويج لها وكسب التأييد الدولي الواسع لها، وحين أصبح الحل السياسي هو الملاذ الأخير والمعوَّل عليه، برز الدور العربي الذي تجسد في تنشيط الوساطة العربية، وممارسة الضغوط المتزايدة على حركة حماس. وتوالت زيارات المبعوثين الأمريكيين السامية إلى العواصم العربية، بالإضافة إلى الاتصالات الهاتفية المكثفة التي أجراها الرئيس بايدن شخصيًا مع عدد من القادة العرب، حتى بات وزير خارجيته، أنتوني بلينكن، زائرًا شبه شهري للدول العربية.

(2)

لقد أتيحت لنا فرصة متابعة الهجوم العسكري الإسرائيلي عبر شاشات وسائل الإعلام المختلفة، ولكن معلوماتنا تظل شحيحة وقليلة عن الهجوم السياسي والدبلوماسي الذي يمارس في الخفاء والظل عادةً، وما عاد خافيًا على أحد أنه يستهدف ممارسة الضغوط الهائلة على حركة حماس، بغية إجبارها على التراجع عن شروطها المبدئية الراسخة، والتي تتجسد أساسًا في الوقف الكامل والنهائي للقتال، والانسحاب الشامل من قطاع غزة والعودة غير المشروطة لكل النازحين إلى ديارهم، مع إطلاق سراح جميع الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال الظالم.

ولا أخفي عليكم قلقي البالغ إزاء هذا الهجوم الناعم الذي يتميز بالخبث والمكر. فالخطة المطروحة ما هي إلا فخ منصوب للفلسطينيين الأبرياء، يعج بالثغرات والمخاطر المتربصة. كما أن لديّ تحفظًا شديدًا على المصطلحات الرائجة المستخدمة في هذا الملف الحساس، ذلك أن الهجوم السياسي هو تعبير ملطف ومهذب لإخفاء الحقيقة المرة المتمثلة في إحكام نصب الكمين المحكم في الخطة، والحلفاءُ العرب المرشحون للاضطلاع بهذا الواجب المشبوه، يراد توريطهم بشكل أو بآخر في خدمة المصالح الإسرائيلية العليا، خصوصًا أن مصطلح «الحلفاء» غالبًا ما يتستر على الخديعة الكبرى، لأن التحالف يصدق في وصف العلاقة الوثيقة أو الشراكة المتينة بين الأنداد المتكافئين. أما حين تكون العلاقة هشة وغير متوازنة بين دولة عظمى وأخرى أصغر بكثير، فإن هذا الوصف يصبح مجرد غطاء زائف للاستخدام أو الامتثال الأعمى والانصياع التام.

ومما يضاعف من وطأة القلق والانزعاج أن الضغوط المفترضة تمارس على الطرف العربي الذي يدرك القاصي والداني أنه في أضعف حالاته على الإطلاق، على نحو يبعث على الأسى والحزن العميق والرثاء المؤلم بالطبع.

إن للوهن العربي أعراضًا جانبية وخيمة متعددة، فعلى الرغم من جميع جرائم العدوان الإسرائيلي وفظائعه المروعة، فإن العواصم العربية للأسف الشديد تبنت خطابًا مسالمًا ومهادنًا لإسرائيل إلى حد مقلق. حتى الأغاني التعبوية الحماسية اختفت تمامًا من المشهد. فلم نعد نستمع عبر أثير الإذاعات المختلفة، على سبيل المثال، إلى قصيدة «أخي جاوز الظالمون المدى» للشاعر المرهف علي محمود طه، ولا إلى أغنية «وين الملايين» للشاعر الليبي المبدع علي الكيلاني.

وفي السياق ذاته، رفضت دار الإفتاء في إحدى العواصم العربية الكبرى أن تجيب عن سؤال ملح لبعض المتدينين الحيارى حول ما يجب على المسلم فعله «إذا دهم العدو جزءًا عزيزًا من دار الإسلام – مثل غزة الصامدة – وعمل على إبادة أهله وتدمير بيوتهم وتعطيل صلاة الجمعة والجماعة». وظل السؤال معلقًا وبلا إجابة شافية طوال سبعة أشهر عجاف.

وكان من المؤسف حقًا أن حملة إسكات الأصوات الحرة ذهبت إلى حد لجوء أجهزة الأمن إلى إلقاء القبض العشوائي على أعداد كبيرة من الشباب الغيور الذين حاولوا التظاهر ببعض اللافتات المتواضعة تضامنًا مع فلسطين الحبيبة.

(3)

إن الضغوط المتزايدة على الدول العربية «الحليفة» ليست أمرًا يسيرًا على الإطلاق، لأن الاستجابة لها بأي قدر كان، ستفقد أنظمتَها الحاكمة ثقة جماهيرها العريضة التي لا يشك أحد البتة في أن غالبيتها الساحقة تقف بقوة في صفّ المقاومة الفلسطينية الباسلة. وفضلًا عن ذلك، فإن هذه الاستجابة المذلة قد يكون لها تداعيات وخيمة تؤثر سلبًا على الاستقرار الاجتماعي الهش، خصوصًا في الأقطار التي تعاني أصلًا من أوضاع اقتصادية صعبة ومتردية تشحن جماهيرها بمشاعر الغضب العارم والتذمر المتصاعد. وقد يستدعي ذلك احتمالات الانفجار الداخلي المدمر الذي لا تحمد عقباه على الإطلاق.

أما إذا حاولت تلك الدول المغلوبة على أمرها مقاومة هذه الضغوط الهائلة، فإن ذلك قد يعرضها لعقوبات وإجراءات تأديبية قاسية من جانب الولايات المتحدة وحلفائها وأتباعها، قد لا تحتملها تلك الدول الضعيفة. وفي حدود علمي المتواضع، فإن هذا الاعتبار يمثل بؤرة اهتمام خاصة من جانب الأمريكيين والإسرائيليين الذين يتابعون بدقة متناهية وحذر شديد كل ما قد يحدث في العالم العربي المضطرب.

ثمّة سؤال جدلي عميق تثيره مسألة جدوى الحضور أو الغياب العربي في مجريات الشأن الفلسطيني المعقد. ذلك أنني أرى أن هذا الحضور أمر بديهي وضروري للغاية، ولا يحتاج توفره إلى تساؤل أصلاً، ولكن ثمة وقائع دامغة سجلها التاريخ بمداد من دموع وأسى، دلّت بكل وضوح على أن هذه البديهية ليست من المسلمات على الدوام، بحيث إن هذا الحضور قد أضر بالقضية الفلسطينية أكثر مما نفعها ولم يكن إطلاقًا لصالحها. وأستحضر في هذا السياق المرير ثلاث وقائع تاريخية:

أولها، أثناء الثورة العربية الكبرى التي شهدتها أرض فلسطين المباركة خلال عامي 1936م -1939م، ذلك أن العناصر الوطنية الفلسطينية الشريفة استنفرت قواعدها الشعبية لمقاومة شراسة الانتداب البريطاني البغيض الذي كان يتستر بوقاحة على هجمات طلائع الحركة الصهيونية المتطرفة، واستخدمت في ذلك السلاح الناري، فضلًا عن تنظيم الإضرابات العمالية، الأمر الذي أدى إلى سقوط أعداد كبيرة من القتلى والجرحى، وإلى محاكمة وإعدام بعض المناضلين الفلسطينيين الشرفاء، وإيداع آخرين في السجون المظلمة التابعة للسلطة البريطانية المستبدة.

وإزاء فشل قوات الانتداب الذريع في قمع هذه الثورة العارمة، فإنه لجأ إلى بعض «الحلفاء» العرب المتواطئين لتهدئة الثوار وإقناعهم بوقف انتفاضتهم المباركة. وكان من بين هؤلاء المتواطئين اثنان من الرموز العربية المعروفة، هما نوري السعيد الذي كان بمثابة رجل بريطانيا القوي في العراق، والأمير عبدالله ممثلًا بارزًا للأسرة الهاشمية في الأردن. وقد زار الأوّل فلسطين، وكان له دور مشبوه في التواصل المباشر مع الثّوار وإقناعهم بوقف الإضراب، وإصدار بيان رسمي بهذا المعنى كتبه المعتمد البريطانيّ بكل وقاحة.

الواقعة الثانية، تجسدت في أحداث عام 1948م المأساوية، ذلك أن خمس دول عربية مجاورة أرسلت قوات رمزية هزيلة لمحاربة الميليشيات الصهيونية المتطرفة، قوامها لا يتجاوز 2,500 شخص بين ضابط وجندي بائس فقط، في حين أن العصابات الصهيونية الإرهابية حشدت ما يقارب 68 ألف مقاتل مدرب ومسلح، إلى جانب عدد مماثل من جنود الاحتياط المدججين بالسلاح.

وكما يذكر المؤرخ السياسي الفلسطيني القدير عبد القادر ياسين، فإن مفتي فلسطين، آنذاك الحاج أمين الحسيني، كان قد اقترح إمداد الثوار الفلسطينيين بالسلاح والعتاد بدلًا من إرسال القوات العربية الهزيلة، خصوصًا أن تلك الأقطار العربية كانت خاضعة للاحتلال الإنجليزي والفرنسي المباشر، ولكن اقتراحه الحكيم قوبل بالرفض القاطع والتجاهل التام. وفي بداية الحرب المشؤومة، انسحبت القوة اللبنانية المحدودة بعد أن سلّمت بكل خسة ودناءة 3 قرى فلسطينية آمنة للعصابات اليهودية الإرهابية، وانتهى الأمر بهزيمة القوات العربية المزرية في تلك الجولة.

الواقعة الثالثة، تمثلت في اتفاقية كامب ديفيد سيئة السمعة التي وقّعها الرئيس المصري الراحل أنور السادات في عام 1978م، وهذه المأساة المؤلمة عشناها بكل جوارحنا وما زلنا نعاني من تداعياتها الوخيمة حتى يومنا هذا. ذلك أنها وجّهت طعنة غادرة ومسمومة للقضية الفلسطينية العادلة، مما أفضى إلى تقزيم الدور المحوري لمصر واختراق إسرائيل لدول العالم العربي.

(4)

وعلى الرغم من تلك الصفحات القاتمة والمؤلمة في كتاب التاريخ العربي الحافل بالمرارات، فإنّ ذلك كله، لا ينبغي له إطلاقًا أن ينسينا ثلاثة أمور جوهرية، وهي:

  • أن القضية الفلسطينية النبيلة احتلت مكانتها اللائقة والمستحقة خلال المرحلة الناصرية الذهبية في ستينيات القرن الماضي، الأمر الذي يعني بوضوح أن الأمر وثيق الصلة بالبيئة السياسية العربية المحيطة. فالقضية الفلسطينية تقوى وتنتعش وتزدهر إذا ما توفرت الإرادة السياسية العربية الصادقة. وهي تنتكس وتتدهور في ظروف الوهن العربي الشامل، بحيث يصبح الغياب في هذه الحالة بمثابة خدمة جليلة للقضية، باعتبار أنه يحجب عنا التأثير الضارّ لتداعيات الضعف المزري.
  • أن غياب الإرادة السياسية الصلبة لا يعني بالضرورة غياب الشعوب العربية الواعية، لأنّ التجارب المريرة أثبتت بلا أدنى شك أن شعوبنا العربية حاضرة بقوة، وإن اختلفت وتعددت مظاهر الحضور الفعال في الشأن الفلسطيني الذي أصبح جزءًا ثابتًا وراسخًا في وعي كل عربي سويّ ومخلص. ومن يتابعْ وسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة يزدَدْ يقينًا بأن شعوبنا العربية ليست غائبة في حقيقة الأمر، ولكنها مغيّبة قسرًا لأسباب واضحة ومعروفة للجميع.
  • الأمر الثالث والأخير، أنه في غياب النظام العربي الرسمي، وعلى الرغم من الصمت القاتل المفروض على شعوبنا الحرة، فإننا لم نعدم ظهور تجمّعات أهلية شعبية غير نظامية انخرطت بكل شجاعة في المقاومة الباسلة من خارج النطاق الرسمي العربي، وهو ما لاحظناه بوضوح في دول مثل لبنان، والعراق، واليمن. وعلى الرغم من أية ملاحظات أو انتقادات قد توجه لتلك الجماعات المقاومة، فينبغي أن يحسب لها أنها انخرطت بجدية في إسناد الفلسطينيين ومواجهة الاحتلال الغاشم، وهو ما قد يغفر لها أية ملاحظات أخرى في هذه الظروف الراهنة العصيبة التي يتعرّض فيها الفلسطينيون الأبرياء لحملة إبادة جماعية ممنهجة.

أختم حديثي بخبر صادم ومؤلم وقَعتُ عليه في زمن الإبادة الراهن. ذلك أن موقعَي «واللا» الإسرائيلي و«أكسيوس» الأميركي الموثوقين كشفا النقاب عن حدث جلل لم تنشره صحفنا العربية للأسف الشديد. وخلاصة هذا الخبر أن اجتماعًا سريًا هامًا عُقد في العاصمة البحرينية المنامة في الثامن عشر من يونيو/ حزيران الماضي، أي أثناء فترة القصف الهمجي على قطاع غزة المحاصر، وحضره رئيس الأركان الإسرائيلي، وشارك فيه قائد القيادة المركزية الأميركية، وتضمن أيضًا مشاركة ممثلين رفيعي المستوى لجيوش خمس دول عربية مجاورة؛ لمناقشة موضوع «التعاون» الوثيق في مواجهة التداعيات الإقليمية المحتملة لحرب غزة.

وإذا لم یكذّب هذا الخبر المريب أو توضّح أهدافه الخفية، فقد نُعذَر جميعًا إذا أسأنا الظن به بحيث صنّفناه ضمن الجهود الحثيثة الرامية إلى توريط الحلفاء العرب المتواطئين فيما يخدم المصالح الإسرائيلية العليا، خصوصًا أننا لم ننسَ بعد أن نكبة عام 1948م المروعة حدثت في أعقاب مشاركة خمس دول عربية فيها بشكل أو بآخر.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة